DANS ANNAHAR UN ARTICLE DE MAY MENASSA SUR BECHARA EL KHOURY

2013-03-29

بشارة الخوري كتب قصيدة من هواء الشرق وحنينه
الأوركسترا الفيلهارمونية التشيكية رفعت ألوانها بعصبها وأشواقها
"قصيدة شرقية" هذه التحفة الموسيقية التي ألّفها بشارة الخوري خصيصا لمهرجان أبوظبي الدولي، هي عبارة عن إيحاءات موسيقي واقف ما بين ضفتين، ذاكرته الشرقية النابضة بالحنين وانتسابه إلى الموسيقى الغربية المعاصرة، مذ اغترب من لبنان الحرب إلى باريس يكمّل ما تعلّمه واستقاه من معلّمه هاغوب أرسلانيان، إلى بيار بوتي الذي قاد خطاه إلى التأليف والتوزيع الأوركسترالي. البذور الأبداعية، وإن اعتلت في أرض الغربة غير أن لجذورها امتدادا متينا في الهوية، تعلو سنابلها حرّة، كونية، يهب من جملها هواء الحنين من دون الأستئثار بالذاكرة.
القصيدة التي قاد إيقاعاتها وقوافيها جيري بيلهلافيك إقترحت ضوءا مختلفا عما أعطاه بشارة الخوري من مؤلّفات تحكي عن أسلوبه الليريكي وروحيته المحلّقة فوق تراجيديا العالم،ترخي في انطلاقها هذا السواد وتخليه لتكتسي بالنور.
أفيكون بشارة الخوري هذا الرومنطيقي، المتأمل، الصائغ قصيدة لا نهاية لها في قالب سمفوني تعبيري صغير،يختصر المسافات بين الوطن والغربة؟ فماذا يحق لنا أن نقول؟ أنه يتلقى وحيه من هذا العالم المشرقي الذي سبقه إليه خالاه عاصي ومنصور الرحباني وما من جملة موسيقية في مؤلّفاته تقودنا إليهما، أم هو المسكوب في العالم الغربي، نقب في أرضه المديدة وحيه؟
حتى في تلك الليلة في قصر الامارات وقبل أن تنطلق الأوركسترا الفيلهارمونية تحت راية القائد تزف إلى جمهور في هذا الوطن الجامع من شتى الجنسيات، البيت الأول من قصيدة لم يطل إداءها سوى خمس عشرة دقيقة، كنت في صدد مراجعة لمامات في ذاكرتي من سمفونيته المؤثرة، الطموحة " آثار بيروت" المتأثرة تعابيرها بالحرب اللبنانية، وفي كل عمل صدر له بعدها كان من وحي هذا العالم الغسقي الذي تتيه ألوانه المشرقة وتذبل معالمها في موسيقاه وكأنه في "هارمونيات غسقية" و"قصيدة سمفونية" كان يتأمل بالزمن العابر فيحاول لجمه في ومضات مدعوكة بالصلب والطراوة، نقارن بعفوية بينها وبين الزمن العابر في قصيدة لامارتين "البحيرة".
فما عبّر عنه لامارتين بالكلمة "أيها الزمن ألجم نهرك الجارف" قاله بشارة الخوري بمهارة تجييشه أوركسترا كاملة تنم عن وسع رؤاه ومدى انتقاله في الزمن الأفتراضي في مؤلّقات يبعث بها رسائل إنسانية إلى العالم. فبالموسيقى يراهن المؤلّف على إيقاف الحروب ونشر الحب والسلام بين الأمم.
ويأتي عمله الأخير"قصيدة شرقية" مستوحاة ربما من ثورات الربيع العربي، يراها بملء الروح والغضب من نافذته الباريسية مشهدا رثائيا، عنيفا، يلمّه أشلاء ناس وبيوت وأوطان في قصيدة تتلوّن تارة بشقائق الحقول الربيعية وتارة اخرى بأصوات المدافع التي تسقي الأرض بدماء الأطفال، من أجل حلم الحريّة نقرأه في موسيقاه، غناء طيّبا وأناشيد سلام. فلا شك والكمانات كالسيوف مرتفعة تصطك على الأوتار كالغضب الساطع، في أن تخيّل ما قصده بشارة الخوري في كل طلقة قوس، وتهويدة سلام .فلم لا تكون الدماء المهدورة في سوريا هي أكثر ما أعطت لهذا المرهف،الماهر في تصوير جدرانية الحياة والموت، مادة غضب حينا ومن طيب النغم سر العزاء حيناً آخر؟
في الصف الأول من مقاعد قصر الأمارات، جلس بشارة الخوري مدعوا إلى قصيدته،شاهدا ومستمعا، وبالقرب منه غدي الرحباني الذي قدم بالأمس في هذا المكان بالذات مع أسامة "تراث الرحابنة". هما من جبلة عرقية واحدة، وكان لكل منهما طريقه وإن كان اللقاء في نهاية كل عمل واحدا، الخير الذي يغلب على الشر.
ربع ساعة من الزمن بدت تحت راية القائد في أعمق تعابيرها، فكنا نقرأ رسالة هذا الملهم بحذافير النغمة المنسوجة بخيوط الشجن والغضب، يطلق من باريسه صرخة استرحام، تتجمّع في الآلات وثيقة موسيقية تشي على العنف والبربرية لبلوغ السكسنة.
may.menassa@annahar.com.lb

Partager